سورة الرحمن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)}
ولنذكر أولاً ما قيل فيه تبركاً بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي فنقول: اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل، وقال بعضهم: خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس فإن السيد يقول لعبده عند الغضب: سأفرغ لك، وقد يكون السيد فارغاً جالساً لا يمنعه شغل، وأما التحقيق فيه، فنقول: عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول: ما أنا بفارغ للكتابة، لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعاً للفاعل من الفعل الآخر، يقال: هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل: أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة، وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعاً من الفعل لا لكونه مانعاً من الفاعل كالذي يحرك جسماً في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين، ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين، فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك، وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة، إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين أحدهما: بشغل والآخر ليس بشغل، فنقول: إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه، فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ، وإن كان له شغل، فإذا أوجد ما أراد أولاً ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ، فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه، واعلم أن هذا ليس قولاً آخر غير قول المشايخ، بل هو بيان لقولهم: سنقصدكم، غير أن هذا مبين، والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان.
واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو، لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر، وإن كان في الزمان فيتسع للفعل، فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه، فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي، فلا يرى خلوه. ويقال: فلان في زمان كذا فارغ لأن فلاناً هو المرئي لا الزمان والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فارغ فيمكنه وصفه للفعل فيه، وقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} استعمال على ملاحظة الأصل، لأن المكان إذا خلا يقال: لكذا ولا يقال: إلى كذا فكذلك الزمان لكن لما نقل إلى الفاعل وقيل: الفاعل على فراغ وهو عند الفراغ يقصد إلى شيء آخر قيل في الفاعل: فرغ من كذا إلى كذا، وفي الظرف يقال: فرغ من كذا لكذا فقال لكم على ملاحظة الأصل، وهو يقوي ما ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل.
وأما {أَيُّهَ} فنقول: الحكمة في نداء المبهم والإتيان بالوصف بعده هي أن المنادي يريد صون كلامه عن الضياع، فيقول أولاً: يا أي نداء لمبهم ليقبل عليه كل من يسمع ويتنبه لكلامه من يقصده، ثم عند إقبال السامعين يخصص المقصود فيقول: الرجل والتزم فيه أمران أحدهما: الوصف بالمعرف باللام أو باسم الإشارة، فتقول: يا أيها الرجل أو يا أيهذا لا الأعرف منه وهو العلم، لأن بين المبهم الواقع على كل جنس والعلم المميز عن كل شخص تباعداً وثانيهما: توسط (هاء) التنبيه بينه وبين الوصف لأن الأصل في أي الإضافة لما أنه في غاية الإبهام فيحتاج إلى التمييز، وأصل التمييز على ما بينا الإضافة، فوسط بينهما لتعويضه عن الإضافة، والتزم أيضاً حذف لام التعريف عند زوال أي فلا تقول: يا الرجل لأن في ذلك تطويلاً من غير فائدة، فإنك لا تفيد باللام التنبيه الذي ذكرنا، فقولك: يا رجل مفيد فلا حاجة إلى اللام فهو يوجب إسقاط اللام عند الإضافة المعنوية، فإنها لما أفادت التعريف كان إثبات اللام تطويلاً من غير فائدة لكونه جمعاً بين المعرفين، وقوله تعالى: {الثقلان} المشهور أن المراد الجن والإنس وفيه وجوه:
أحدها: أنهما سميا بذلك لكونهما مثقلين بالذنوب ثانيهما: سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض فإن التراب وإن لطف في الخلق ليتم خلق آدم لكنه لم يخرج عن كونه ثقيلاً، وأما النار فلما ولد فيها خلق الجن كثفت يسيراً، فكما أن التراب لطف يسيراً فكذلك النار صارت ثقيلة، فهما ثقلان فسميا بذلك ثالثها: الثقيل أحدهما: لا غير وسمي الآخر به للمجاورة والاصطحاب كمايقال: العمران والقمران وأحدهما عمر وقمر، أو يحتمل أن يكون المراد العموم بالنوعين الحاصرين، تقول: يا أيها الثقل الذي هو كذا، والثقل الذي ليس كذا، والثقل الأمر العظيم.
قال عليه السلام: «إني تارك فيكم الثقلين».


{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في وجه الترتيب وحسنه، وذلك لأنه تعالى لماقال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] وبينا أنه لم يكن له شغل فكأن قائلاً قال: فلم كان التأخير إذا لم يكن شغل هناك مانع؟ فقال: المستعجل يستعجل. إما لخوف فوات الأمر بالتأخير وإما لحاجة في الحال، وإما لمجرد الاختيار والإرادة على وجه التأخير، وبين عدم الحاجة من قبل بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} [الرحمن: 26، 27] لأن ما يبقى بعد فناء الكل لا يحتاج إلى شيء، فبين عدم الخوف من الفوات، وقال: لا يفوتون ولا يقدرون على الخروج من السموات والأرض، ولو أمكن خروجهم عنهما لما خرجوا عن ملك الله تعالى فهو آخذهم أين كانوا وكيف كانوا.
المسألة الثانية: المعشر الجماعة العظيمة، وتحقيقه هو أن المعشر العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد ويقول: أحد عشر وإثنا عشر وعشرون وثلاثون، أي ثلاث عشرات فالمعشر كأنه محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
المسألة الثالثة: هذا الخطاب في الدنيا أو في الآخرة؟ نقول: الظاهر فيه أنه في الآخرة، فإن الجن والإنس يريدون الفرار من العذاب فيجدون سبعة صفوف من الملائكة محيطين بأقطار السموات والأرض، والأولى ما ذكرنا أنه عام بمعنى لا مهرب ولا مخرج لكم عن ملك الله تعالى، وأينما توليتم فثم ملك الله، وأينما تكونوا أتاكم حكم الله.
المسألة الرابعة: ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس هاهنا وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] نقول: النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن، فقدم في كل موضع من يظن به القدرة على ذلك.
المسألة الخامسة: ما معنى: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان}؟ نقول: ذلك يحتمل وجوهاً أحدها: أن يكون بياناً بخلاف ما تقدم أي ما تنفذون ولا تنفذون إلا بقوة وليس لكم قوة على ذلك. ثانيها: أن يكون على تقدير وقوع الأمر الأول، وبيان أن ذلك لا ينفعكم، وتقديره ما تنفذوا وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان الله، كما يقول: خرج القوم بأهلهم أي معهم ثالثها: أن المراد من النفوذ ما هو المقصود منه؟ وذلك لأن نفوذهم إشارة إلى طلب خلاصهم فقال: لا تنفذون من أقطار السموات لا تتخلصون من العذاب ولا تجدون ما تطلبون من النفود وهو الخلاص من العذاب إلا بسلطان من الله يجيركم وإلا فلا مجير لكم، كما تقول: لا ينفعك البكاء إلا إذا صدقت وتريد به أن الصدق وحده ينفعك، لا أنك إن صدقت فينفعك البكاء رابعها: أن هذا إشارة إلى تقرير التوحيد، ووجهه هو كأنه تعالى قال: يا أيها الغافل لا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات والأرض فإذا أنت أبداً تشاهد دليلاً من دلائل الوحدانية، ثم هب أنك تنفذ من أقطار السموات والأرض، فاعلم أنك لا تنفذ إلا بسلطان تجده خارج السموات والأرض قاطع دال على وحدانيته تعالى والسلطان هو القوة الكاملة.


{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول: إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادي به يوم القيامة، فكأنه تعالى قال: يوم يرسل عليكما شواظ من نار فلا يبقى لكما انتصار إن استطعتما النفوذ فانفذا، وإن قلنا: إن النداء في الدنيا، فنقول قوله: {إِنِ استطعتم} إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من الله فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم، فكأنه قال: إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولا بد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن، لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده، ولا سبيل إليهما.
المسألة الثانية: كيف ثنى الضمير في قوله: {عَلَيْكُمَا} مع أنه جمع قبله بقوله: {إِنِ استطعتم} [الرحمن: 33] والخطاب مع الطائفتين وقال: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} وقال من قبل: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان} [الرحمن: 33] نقول: فيه لطيفة، وهي أن قوله: {إِنِ استطعتم} لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى، فقال: إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا، ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر، فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان، وأماقوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار، فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلاً، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال: لا فرار لكم قبل الوقوع، ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام والجواب الثاني: من حيث اللفظ، هو أن الخطاب مع المعشر فقوله: {إِنِ استطعتم} أيها المعشر وقوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ليس خطاباً مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكوراً بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا} وهذا يتأيد بقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] وحيث صرح بالنداء جمع الضمير، وقال بعد ذلك: {فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا} حيث لم يصرح بالنداء.
المسألة الثالثة: ما الشواظ وما النحاس؟ نقول: الشواظ لهب النار وهو لسانه، وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب، والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد، وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار، وأما النحاس ففيه وجهان، أحدهما الدخان، والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا، ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد.
وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره، والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضاً. فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة، والجن خفاف والنحاس ثقيل، وكذلك إن قلنا: المراد من النحاس الدخان، ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح.
المسألة الرابعة: من قرأ {نحاس} بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس؟ نقول: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: تقديره شيء من نحاس كقولهم: تقلدت سيفاً ورمحاً وثانيهما: وهو الأظهر أن يقول: الشواظ لم يكن إلا عندما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية، وهو الدخان، فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان، وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب، فإن قيل: على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان، نقول: العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى، لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور، فلا يكون لها لهيب وهيبة، وقوله تعالى: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} نفي لجميع أنواع الانتصار، فلا ينتصر أحدهما بالآخر، ولا هما بغيرهما، وإن كان الكفار يقولون في الدنيا: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] والانتصار التلبس بالنصرة، يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها، ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان، والذي يقال فيه: إن الانتصار بمعنى الامتناع: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} بمعنى لا تمتنعان، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبساً بالنصرة فهو ممتنع لذلك.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10